غرفة
ضيقة اصفطت علي جدرانها معلقات وصور لمشاهير لاعبي الكرة والنجوم، وجميلات الشاشة
ومكتب صغير عليه بعض الأوراق وكوب به أقلام وبعض الكتب المتناثرة بالكاد لها مكان
جوار شاشة الحاسوب العتيقة الضخمة، حاسوب من طراز قديم وكيسته أسفل المكتب مفتوحة
من كل الجوانب ويخرج منها أسلاك متصلة بلا نهاية في محاولة لإنعاش أجزاءها القديمة
المهترئة، ثم مكتبة صغيرة بها عشرات الكتب والروايات وكاسيت وسماعات قديمة هي الأخري
وضعت بعناية جوار أرجل السرير القديم الذي طالما أيقظك أزيزه في حال لو قلبت جانبيك بالخطأ أثناء نومك، وسجادة قديمة بين الأريكة المتوسطة الحجم والسرير ..هذه الأشياء هي كل ما يملكه حسام من هذه
الدنيا ..
جلست
زبيدة علي الكرسي قباله وهو جالس علي الأريكة مطرق الرأس وتنظر له بعين العتاب
الذي يمتزج بالشفقة علي حاله ودار بينهما الحوار التالي..
-زبيدة:
إنت اتجننت يابني؟ في حد يعمل اللي انت عملته ده؟ ده أنا طول أيام الجامعة دي كنت
بمشي جنب الحيط .. كنّا نشوف دكاترة الجامعة عاوزين إيه ونعمله..لو عاوزين مراضية نراضيهم
..عاوزين محايلة نحايلهم ..أبحاث نبحث لهم..عجين الفلاحة نعمله..وإنت تيجي كده تعمل
فيها الهمام قدام البت المصدية بتاعتك دي وتتخانق مع الدكتور في المدرج وتضربه؟؟
إنت كنت مبلبع حاجة؟..كنت متعاط...
قاطعها
حسام بإنفعال وعصبية: ما ضربتوش يا زبيدة ..م ضربتوش ..
-زبيدة:
أومال إيه يابني هيفصلوك من الكلية كده استهبال منهم يعني؟
نظر
إليها حسام نظرة عتب والدمع علي طرف جفنه يغالبه في الخروج ثم قال: آه بيستهبلوا..آه
ظلموني..أنا مضربتوش ..أنا شفته بيحط ايده علي إيد أميمة..دمي فار..فقلتله شيل
إيدك..كلمة مني علي كلمتين منه زقني رحت زاقق إيده ..راح مزعق ونادي الأمن يمسكوني
بره ..والطلبة عشان خايفين يسقطهم شهدوا ضدي إني ضربته ..مع إنهم كلهم شافوه وهو حاطط
إيده علي إيدها وماسكها جامد..
-زبيدة:
طب وإنتو أصلا إيه اللي وداكم ناحية الاستيدج؟
-حسام:هو
نادي علي كذا حد من الطلبة اختارهم عشوائي عشان يديهم ورق فيه الأسئلة اللي
المفروض هييجي شبهها في الامتحان وكمان الكتب والمراجع اللي عاوزنا نجيب منها
الجزء بتاع البحث...ورق مهم يعني وأنا وأميمة وكذا حد تاني رحنا ..
-زبيدة:
هو مش ممكن يكون جرئ كده معاها ، إلا إذا كانت هي مدياله الإشارة ..إنت إيه اللي
يحشرك؟ إنت إيش عرفك أخلاقها عاملة إزاي ولا ما هي يمكن أصلا اللي عاجبها إنه يمسك
إيدها ؟ إنت مالك؟
-
حسام: أنا مالي إزاي؟ هو لو إنتي كنتي مكانها هتسيبيه يمسك إيدك؟
-زبيدة:
لا طبعا، بس هي مش أختك ولا إنت مسؤل عن تصرفاتها..هي مش لها لسان ؟
نظر
لها حسام بجانب عينه ورمشت عينه باضطراب واطرق برأسه ولم يرد، فهزت زبيدة رأسها
وضيقت حدقتها وكأنها فهمت شيئا ما، ثم ألقت بما في جعبتها وقالت : بتحبها؟
ارتبك
حسام وقام من مكانه بعصبية ومد يده ليلتقط كوب الماء علي مكتبه الصغير، محاولة
يائسة للتمويه أو تغيير الموضوع وارتشف رشفة صغيرة من الكوب وأخذ نفسا عميقا وأطلق
زفيرا عميقا آخر ثم قال: الموضوع مش حب يا زبيدة، إنتي لو مكاني كنتي هتعملي إيه؟
نظرت
زبيدة في عيني أخيها مباشرة ورفعت حاجبا وقالت له بنبرة "كشفتك": هستني
أشوف رد فعل البنت إيه؟ اشمعني أنا اللي هتكلم لوحدي؟
ابتسم
حسام في استسلام ويأس ونظر في جهة النافذة الصغيرة خلف الأريكة وقال: طب ولو فرضنا
إن أنا بحبها ، أنا دلوقتي معمول لي محضر ومهدد اترفد من الكلية ومستقبلي يضيع
..أنا مش عارف اعمل إيه ..أروح فين وهتصرف إزاي؟
قامت
زبيدة من مكانها وربتت علي كتف أخيها وقالت: إنت متتصرفش خالص دلوقتي، احنا اللي هنتصرف..نروح
نقابل الدكتور ده ونتفاهم معاه ونشوف نحاول نحل الموضوع ودي ..
-حسام
مقاطعا: ودي إيه..ده أوسخ دكتور فيكي يا كلية الهندسة..دكتور سميح عبد المقصود ده
أقذر دكاترة الكلية..أصعب امتحانات..أوسخ معاملة..أسوأ تعامل مع الطلبة..مفيش شرح..مفيش
ورق..كل سنة يغير في المنهج عشان محدش يعرف يعمل ورق من وراه ولا معيد يعرف يدي
درس..أنا مش عارف إيه فايدة العلم اللي اتعلمه طالما مبيعلموش لحد ومبيفيدش بيه
حد؟؟؟ إيه الفايدة يبقي معاك دكتوراة في حاجة ومهنتك تدرس الحاجة دي ومع ذلك أقل
من 20% من الدفعة اللي بتنجح في المادة دي وبالرفع والرأفة؟ أقولك ع الكبيرة بقي؟...مرة
في محاضرة حكالنا إنه ف حياته عيط مرتين ..لما أمه ماتت ولما ادي لطالب جيد ف
مادته...
-قطبت
زبيدة جبينها في فزع وقالت: يا ساتر! وملقتش إلا الزومبي ده اللي تتخانق معاه
يابني!
وجهه بين كفيه وأصابعه تتخلل مقدمة
شعر رأسه وزفر بحرارة ..فاستطردت زبيدة : ليها حل يا حسام، تبات نار تصبح رماد
..في الآخر كل بني آدم له نقطة بتحركه وأكيد ه...
قطعت كلامها
فجأة فالتفت إليها حسام ..فقالت وهي تنظر لقدميها وكأنها تسترجع حدثا ما أو شيئا
ما..ثم ابتسمت وقد ظهرت نواجزها في سعادة وقالت: تاهت ولقيناها..أنا لي واحدة صاحبتي
باباها دكتور في كلية الهندسة ...دكتور حاتم جبريل ..تعرفه؟
هز حسام
كتفيه في نفي وقال: لأ أول مرة اسمع اسمه..بس هيساعدني إزاي يعني؟
-زبيدة:
يتوسط لنا ف حال الدكتور مرضيش يكلمنا..يتوسط لنا عشان الدكتور يتنازل عن المحضر..
انطلقت
مسرعة خارج الغرفة في جهة جوالها لتجري المكالمة دون انتظار تعليقا من حسام...
وأجرت
المكالمة وكانت النتيجة المبدئية لا تبشر بأي شئ، ولكنها شئ ..خيط رفيع من الأمل !
غيرت
ثيابها وأعدت لنفسها الغداء أو ربما العشاء وحضرت لأبيها كوبا من الشاي المنعنع..وجلست
إلي جانبة في الشرفة تتناول طعامها وهو يحتسي الشاي في شئ من الراحة ودار الحوار
التالي..
-زبيدة:
خلاص بقي يا حجوج..إن شاء الله ساعة زمن كده وصاحبتي ترد علي ونشوف هنعمل إيه؟
-
الحاج نوح: يعني والد صاحبتك ممكن يعمل إيه يعني؟ حسام غلطان و الغلط راكبه من
ساسه لراسه، كده قولا واحدا (ورفع يده ملوحا يمينا ويسارا في تأكيد ورفض تام)
فأومأت
برأسها زبيدة وهي تحشو فمها في نهم وتردد بينما الطعام علي بوابة ثغرها يكاد أن
يفلت من بين شفتيها وهي تردد : تمام تمام.
-الحاج نوح مستطردا: ده أنا أيام م كنت حتة مدرس تاريخ خريج جديد كنت لازم
أحسس الطلبة بهيبتي وسيطرتي، ده أنا لو مكان الدكتور ده ويقوم ييجي حتة عيل لسه
مطلعش من البيضة ويهزقني قدام باقي الطلبة؟...
...ده أنا مش اعمله محضر..ده أن قليل القليل م كنت امرمط بكرامته الأرض هو
وأهله عشان يبقي عبرة!..
-زبيدة:
يا حجوج ..يا حجوج إيش جاب لجاب ..إنت طول عمرك الطلبة بتحبك وبتحترمك وإنت مش
محتاج تعمل لنفسك هيبة يا حجوج.. اللي بيحترم الناس ويعاملهم بالفضل والإحسان هيبته بتتكون
تلقائي في قلوب الناس، إنما اللي بيعمل حواليه ميت سد وسد بيبقي ناقص وخايف لو
الناس عدت الحدود والسدود اللي عاملها حوالين نفسه دي يشوفوا خيبته ويشوفوا نقصه..المحسنين
المحترمين مش محتاجين هيبة يا حاج نوح !
ابتسم الحاج إبتسامة رضا، وهز رأسه في موافقة وارتشف رشفة من كوبه وعاد بظهره للوراء مستمتعا بنسمة الهواء
العليل التي مرت بهم وقال لابنته دون أن يلتفت إليها: إنتي عارفة أنا ليه سميتك
زبيدة؟
-زبيدة:
ليه يا حجوج؟
-الحاج
نوح: سميتك زبيدة علي اسم الملكة زبيدة، زوجة هارون الرشيد ..كانوا بيسموها أمة
العزيز..وكانت أحب واحدة ليه في القصر ..كانت عقلها يوزن بلد، شخصيتها قوية وكانت ممشية
أمور الدولة كويس في حال جوزها مش موجود، وكان جوزها بيستشيرها في أمور الحكم وكانت
مهتمة بالعلم والثقافة والأدباء والعلماء ..كانت علامة من علامات عصرها وكانت
مهتمة ببنا المساجد والمكتبات وعملت عين زبيدة تسمعي عنها؟
هزت زبيدة
رأسها في نفي وقالت: لأ ..إيه عين زبيدة دي؟
فراح
الحاج نوح يشرح لها باسما: دي عين عملتها الملكة زبيدة عشان تسقي الحجيج ودفعت في
بناها مجوهرات ودهب وفلوس ياما ..بيقولوا إنها كانت بتوصل بين مكة وبغداد ..وحفرت
حواليها آبار وعيون تانية عشان الناس تشرب وعملوا فيها فتحات عشان تستقبل مياه
السيول ويخزنوها ويستفيدوا منها ، وفضلوا سنين وسنين يبنوا فيها وفضل الحجاج يشربوا
منها 1200 سنة ..ولما تبوظ القنوات بتاعتها يصلحوها ويجددوها ..تخيلي 1200 سنة
الناس بتشرب منها ؟
زبيدة
بإنبهار: يا بختها ! ثوابها كبير أوي، وحاجة عظيمة عرفت تخلد بيها اسمها والناس
تفتكرها من بعدها..
قال
الأب بنبرة متهكمة: بيقولوا ابنها أو حد من قرايبها حلم بيها بعد م ماتت وهي في هيئة
حسنة فقالها تلاقيكي بتتنعمي في الجنة بثوابك علي العين دي..فقالت له دي كادت تهلكني..ده
أنا اتشائمت منها!
زبيدة
في عجب : ليه؟
الحاج
نوح: قالت له في الحلم إنها اختلطت عليها النية فقصدت بيها رياء الناس والشهرة بينهم فاتحرمت من الثواب
وقالت في الحلم اللي نجاها ركعتين قبل الفجر اللي محدش داري بيهم حاجة!
زبيدة:هو بغض النظر إن ده حلم وممكن ده ميكونش المصير النهائي لعملها، لكن يعني ممكن الواحد يعمل حاجات كويسة وكبيرة وتنفع الناس ومينوبوش منها إلا
الهم وكمان الذنوب !
الحاج
نوح: يعني..تقدري تقولي الواحد كل شوية لازم يفتش في قلبه ويدور علي نيته...
زبيدة:
بس حد بالعلم والكمال ده، إزاي يعني تقع في غلطة الرياء والسمعة يعني؟
الحاج
نوح: ومين قالك إن في حد كامل يابنتي؟ إنتي عارفة ..الملكة زبيدة كان لها ابن اسمه
الأمين والملك هارون الرشيد كان له ابن تاني أكبر من الأمين بكام شهر اسمه المأمون،
المأمون أمه جارية اسمها مراجل وماتت بعد م ولدته بتلات أيام فالملكة زبيدة ربته بردو
زي ابنها ..ولما كبروا الولدين ..جه وقت تحديد مين يبقي ولي العهد..الأمين ابن
زبيدة كان أصغروكان متدلع وكان طايش والمأمون ابن الجارية كان حكيم وعاقل وعقله راجح
ومتزن بس كان من أصل أعجمي ..وهم كانوا عاوزين حد من أصل هاشمي يمسك الحكم...
زبيدة:
طبعا الملكة زبيدة وقفت لابنها..
الحاج
نوح مبتسما: بالظبط..ده اللي حصل ..الملكة زبيدة استغلت النقطة دي عشان تخللي ابنها
الأمين يمسك الحكم رغم عدم موافقة أبوه الملك هارون الرشيد ومش بس كده ..دي حرضت
الملك ضد الوزراء اللي عاوزين المأمون يمسك الحكم وكانوا اسمهم البرامكة وخللت
هارون الرشيد يخلص عليهم كلهم بحجة إنهم عاوزين يقضوا عليه ويستقلوا ببلاد فارس
وجابت له دلايل ع الكلام ده ، فالملك خلص عليهم وسمع كلامها وعين الأمين ولي للعهد..
زبيدة:
اوعي تقولي إنه فشل بعدها؟
الحاج
نوح:براوة عليكي.. مخيبتيش ظني فيكي يا زبيدة، فعلا فشل وخبط في فئات كتير والناس انقسمت واتحاربت وقتلوه وأخوه المأمون مسك مكانه.
توقفت
زبيدة عن تناول الطعام وقلبت شفتيها في امتعاض وقالت: وبعدين ؟والملكة زبيدة عملت
ايه؟
الحاج
نوح: بعتت له جواب تهنئة وعتاب وقالت له الخلافة راحت من ابني لابني بردو وبهنيك علي
خلافة هنيت نفسي بيها قبلك...ساعته الملك المأمون برأ نفسه من قتل الأمين وفضل يعاملها
بالإحسان ويسترضيها ويستشيرها لحد آخر يوم ف عمرها...
زبيدة:
ياه ..يعني هي بردو رغم دماغها اللي توزن بلد وعلمها غلطت وتسببت في
قتل ابنها بعد كده!.. صحيح ..مفيش حد كامل.
الحاج نوح: قضاه يابنتي..هنقول...
قتل ابنها بعد كده!.. صحيح ..مفيش حد كامل.
الحاج نوح: قضاه يابنتي..هنقول...
ورن الهاتف
وأسرعت إليه زبيدة لتستقبل مكالمتها وكانت صديقتها ابنة الدكتور حاتم جبريل!

Comments