ثمن الفراق ...جليلة!
لطالما
كنت الطالبة النجيبة المحبوبة، علاقاتي جميعها وإن كانت سطحية ولكنها طيبة مع الجميع.
كان
لدي أصدقاء ورفقة، و لم يمنعني هذا من التعرف إليها..أحببتها وصادقتها، كيمياء
عجيبة كعوامل الجذب أو شئ مختلف أجده فيها ولا أجده في الجميع، لا أعلم لم انجذبت
إليها بهذا الشكل، ولم أنتظرها يوميا حتي نعود من محاضراتنا معا!
كنا
لحسن الحظ جيران، قليلا، بيننا ما يقرب من الخمس محطات، أنزل في آخر خط الترام ثم
أوصلها لبيتها، ثم استقل حافلة أو ميكروباصا أو تاكسيا آخر حتي بيتي، أمي والجميع
وجدوا في ذلك ضربا من الجنون أن أركب الترام لمدة ساعة ونصف الساعة يوميا لأستقل
حافلة أخري أركبها لدقائق بينما يمكنني أن استقل ميكروباصا يوصلني لبيتي في نصف
ساعة فقط واختصر علي نفسي كل هذا الوقت!
ولكن
الصداقة بالنسبة لي شئ مقدس، أنا أقدر الأصدقاء لأقصي حد وعيبي أني انتظر منهم
المثل وربما المزيد، أنا اهتم كثيرا بتفاصيل الآخرين لو أحببتهم وأتوقع منهم المثل،
نادرا ما أجد المثل، نادرا جدا للأسف، وغالبا ابتعد وابحث عن جديد، إلا هي، صديقة
العمر جليلة..
ربما
لم تختلف كثيرا عن من صادقتهم من قبل، ربما شاركت أسراري بذلة لسان مع أخريات، أو
لم تنتظرني كي نعود معا من الجامعة كما أنتظرها، ربما فاتتني محاضرة ولم تهتم أن تعيد
علي ما فاتني، ربما طلبت مني شيئا وفعلته كما طلبت تماما ولم يؤت نتيجته كما تمنت
فأجدها تلومني أنا، تلومني أنا أني فعلت ما طلبت هي! ولكني أراها كلها أشياء بسيطة،
أنا أحب رفقتها، وأرتاح في حضرتها، أعشق حكاياها، وأنتظر مواقفها الطريفة، أسلوبها
الساخر الجذاب وهي تقص علي مسامعي تفاصيل اليوم، ضحكاتنا سويا، طريقة عرضها لمشاهد
يومها، لو كان الناس يرافقون بعضهم البعض من أجل الوقت اللطيف و اللحظات الحلوة، فلا
ألطف من أوقاتي معها، كانت تعلم الكثير وعلمتني الكثير في الأحكام الشرعية وأمور
الدين، علمتني أن استخير الله في كل شئ وانتظر العلامات والدلائل، هذا سرها بينها
وبين الله، لم تقصد أن تطلعني عليه ولكني فقهته...
كنت
يوما عندها في زيارة لمنزلها، نتحدث ونتحدث ولا نكف عن الكلام، حتي وجدتها أسهمت
للحظة ثم رفعت يديها للسماء ودعت بصوت مسموع:" يارب نجلاء أختي عندها امتحان
النهاردة، وهي ذاكرت المادة دي كويس أوي، يارب ذكرها باللي هي نسياه"..
ومرت ساعة
وعادت نجلاء، كانت سعيدة وراحت تقص علينا كم كانت الأسئلة غير مباشرة بشكل عجيب
جعلها تنسي ما استذكرت وتتخبط في الإجابات إلي أن ألهمها الله و كما قالت"
معرفش إزاي" وفي آخر ثلث من الساعة أدركت ما نسته وصبته كله في ورق الإجابة،
وأدركت أنها فعلت الصواب لما راجعت الأسئلة مع أحد أساتذتها بالكلية..لما رأيت ذلك
قلت لها "أختك دعت لك علي فكرة"، فابتسمت جليلة وأطرقت برأسها في خجل..أدركت
وقتها أن بينها وبين الحبيب الأعلي شأن ما...
لم تكن
كل لحظاتي معها حلوة، كأي صديقتين نختلف، وحلفت يوما ألا أحادثها، غضبت لأنها خرجت
وصديقاتها الأخريات في آخر أيام الامتحانات ولم تراع أني حزينة لأني لم أحل جيدا
بالمادة الأخيرة وليس لي طاقة بالتنزه، اختارتهن وفضلتهن علي، وذهبت معهن وتركتني...أقسمت
عظيم القسم أن اقطع علاقتي بها أبد الدهر، وفات يوم، اثنين، ثم عشرة وأدركت كم أنا
ظالمة! ربما كان لديها تفسير.. ويعود عقلي ليخبرني، لو كان لديها تفسير، لم لم تقله
إذن؟ لم لم تتصل إلي الآن وتخبرني إياه؟
زاد
عجبي، وتعاظمت حيرتي، فقررت أن اتصل، وكان الرد... جليلة طريحة الفراش، وقعت فجأة
أمام المرآة لما اختل توازنها ولا تستطيع الحراك البتة..
جن جنوني، وانطلقت بأقصي سرعة نحو بيتها، في أقل
من ربع الساعة كنت في حجرتها، كانت مضجعة علي فراشها، أخبرتني أن الطبيب أعلمها أنها
تعاني من أعراض الحمي الروماتيزمية، قالت أنها ستتناول دواءا لشهور، تناثرت مني
عبارات مثل قضاء أخف من قضاء، ستكونين بخير، ليس هناك مشكلة، والحمد لله ستمر
الأيام سريعة وينتهي كل شئ وعدت لبيتي وظللت علي اتصال يومي بها حتي اليوم الذي لم
يتلق أي من أفراد أسرتها السبعة مكالمتي، احترت في ذلك ولم تكن الجوالات منتشرة وقتها كي أحادثها، ومر يومان
والحال علي نفس المنوال، اتصل يوميا ولا رد ولا شئ، حتي أخبرني أخاها الأصغر
هاتفيا أن جليلة لم تستجب للعلاج واختل توازنها مرة أخري، فأجروا لها فحوصات طبية
أخري أثبتت خطأ التشخيص ووجدوا أنها مصابة باللوكيميا أو سرطان الدم!
ينتابني
شعور بالتوقف عن الكتابة الآن، أكره الكآبة وأكره لحظات الحزن والألم، لكن لا مفر
من وحش الذكري، رجوع جليلة للدراسة كان بمثابة المعجزة والتي حذرها منها الأطباء
والزملاء والكثير..
الكل
كان يطلب منها تأجيل السنة الدراسية وكانت ترفض رؤية أغلبهم إلا أنا، كنت أمنحها
الأمل، كنت أؤمن فيها وبها، كنت أعلم لسبب ما أنها تحتاج أن تحيا مثل الجميع، وحتي
وإن لم يكتب لها الشفاء فلها كل الحق أن تحيا وألا تحرم من حق الحياة طالما لازالت
علي قيد الحياة..لم يطلبون إليها أن تمتنع عن الدراسة ودراستها هي مستقبلها الحالي،
دراستها هي حياتها التي يريدون منعها عنها وهذا ليس عدلا أبدا!
سأخبركم ماذا سيحدث لو أجلت الدراسة... ستمكث بالمنزل،
تشحذ الاهتمام وتنتظر السؤال الممل الكئيب علي صحتها وتتحسر علي ما فات، وتظل أمها
وأهلها يخبرونها أنه لو كانت رسبت ألف مرة هي وأخواتها كان هذا أفضل وأرحم من مرضها
المقيت هذا، وتظل هي دون وعي تقارن بين حالها الآن وحالها قبل أن تمرض، ثم بين
حالها الآن وحال الآخرين الذين لم يداهمهم المرض وهم في نفس عمرها...شئ صعب علي
النفس..أشعر بها وكأنها أنا... إذن لم كل هذا طالما كانت تقو علي ممارسة طقوسها
اليومية؟
ما
الفائدة أن تحيا دون هدف؟ لم تتحول حياتك بين ليلة وضحاها من شخص يذهب ويأتي
ويتعلم ويختار ويختلط وله تجارب ويسعي ويتحدث إلي شخص كل ما تراه في يومك هو سريرك
وتلفازك؟ ولا تخرج للنزهة إلا للمشفي؟
لقد
سلبوا منها حق الحياة قبل أن تموت أصلا، وهذا سينعكس علي حالتها النفسية و التي ستؤثر
علي حالتها الصحية بعد ذلك...
لما
زادت الضغوط عليها للانقطاع عن الدراسة، قطعت كل الأسلاك والأنابيب المعلقة
برسغيها وكاحليها وهربت من غرفة المشفي، امسكوها عند السور وتواصلوا مع الأهل..كانت
عنيدة، ويغفر لها حبها وبحثها عن الحياة... جميعنا أحياء، منا من يحياها فقط ومنا
من يحب الحياة ويحياها...فارق كبير.
لما
تحسنت نتيجة تحاليلها الشهرية وتضائلت نسب السرطان لأقل من 20 بالمائة قررت العودة
للكلية، رغم تحذيرات الجميع من الإنتكاسة لكنها أبدا لم تستسلم..
فرح
الجميع بعودتها في البداية، لكن صدمها برود الأغلبية، القليلون من يساعدون بصدق ويسألون
عنها ويشاركونها مصادر البحث والاستذكار، أنانيون ومغرضون لم يعودوا لتحسين
علاقاتهم بها إلا لما ساعدها المعيدون والأساتذة وجلبوا لها المصادر واستحضروا لها
الفائت من المحاضرات رفقا بحالها ومساعدة لها لتعويض ما فاتها خلال الأشهر التي
غابت فيها، للأسف عجزت أن أساعدها لأني رسبت العام السابق فلم نكن بنفس الصف الدراسي
للأسف، كنت معهم وهي تعاتبهم عن تخليهن عنها، تركنها وهي في أشد الحاجة للمحاضرات
والمصادر الفائتة، رسبت هي الأخري وأصبحنا في نفس الصف في العام الذي تلاه..
كنت
أود مساعدتها جدا وتعويضها عن نذالتهن، ولكني لم أجد نفسي خير منهن، مع ضخامة
المنهج الدراسي وازدحام الجدول والمحاضرات المترادفة والسكاشن الموزعة طيلة اليوم،
لم يكن لدي متسع من الوقت كي أركب الترام لساعة ونصف، ليس لدي وقت، ولكني أبدا لست
نذلة، كنت اتصل بها قبيل الامتحانات أملي عليها الهام والأهم وطبعا دون أن تعلم أمي،
أمي حذرتني وتوعدتني بالحرمان من الدراسة لو ضيعت المزيد من الوقت معها أو سمحت
لنفسي أن أتأثر بحكاياها، كلها عند أمي ترهات لا مجال لها ومستقبلي أهم، كنت أتهرب
من مكالماتها، كنت أدير ظهري لو رأيتها، ليس تبدلا عليها ..فقط لا أريد أن أرسب
مجددا، لم أكن أبدا من الراسبين ولن أكون ولن أسامح نفسي لو فعلت...
هي
تعلم أن محبتي لها فوق كل اعتبار وتعلم أن أمي هي السبب في قطيعتي لها، علمت ذلك
حين اتصلت بي تستجديني كي أعود لسابق عهدي معها نستقل الترام ونتبادل الحديث ونجلس
معا بالساعات ونتبادل الزيارات، بكت وأبكت قلبي، اكفهر وجهي وأنا اسمع صوتها
بسماعة هاتفي بينما ناظري علي يدي أمي وهي تلقف السماعة وتقص أسلاك الهاتف...
تحاشيتها
كثيرا وأنا بمبني الكلية، تركتها وتجاهلتها خوفا علي ضياع وقتي ومرضاة لأمي، صمدت
وصمدت وأنا أري نظرات العتب في عينيها، تقتلني، أقسم أن الذنب ليس ذنبي..أو ربما
ذنبي لأني رسبت في عامي الجامعي الأول!
ظللت هكذا
لأسابيع أو أشهر قليلة، حتي وجدتها اختفت تماما من الكلية وانقطعت أخبارها، قاومت
نفسي كثيرا ألا أسأل عنها ولكني لم أستطع لما وجدتها تتكئ علي أخاها وهي تصعد
الدرج، صحيح اخفيت وجهي خلف أوراقي التي كنت استذكر منها قبيل الامتحان، وصحيح أني
أرسلت لها كل الأسئلة الهامة والمتوقعة كي أريح ضميري، لكن كنت بقرارة نفسي أشعر
بالخجل من نفسي أنني لم أقدم لها الدعم المعنوي الذي تحتاجه ظنا مني أن هذا مضيعة
لوقتي والأفضل أن أساعدها بشكل عملي فقط، لكن لو عادت الأيام لكنت اختلست من وقتي
وساندتها، كنت ذهبت إليها كي تتكئ علي كتفي وتصعد الدرج، كنت قبلت وجنتها وربتت
علي كتفها، هذا أهم من ألف امتحان، هذا هو الامتحان الحقيقي.. اللحظات التي تعيدنا
لإنسانيتنا الهشة أبرك من كل شئ وأعمق من أي شئ...هي أشياء لا تشتري..ولكنها
بالدنيا وما فيها..
بعدها
بأيام قلائل هاتفتها وعلمت أن ما حذرها منه الأطباء قد حدث، وأن المرض ارتد في جسدها
فيما يعرف بالإنتكاسة بنسبة أكثر من 80 بالمائة، زادوا لها جرعات الكيماوي فحرقت جلدها،
وانهالت علي ما بقي من خصيلات شعرها والتي بدأت في النمو بعد التعافي أو شبة
التعافي، وقتها شعرت أن شيئا ما يدفعني لتحسين ما بقي من صورتي أمامها، وإن كانت
الدراسة السبب في الإنقطاع فالعام الدراسي قد انتهي، وإن كانت زيارتي لها تضايق
أمي، فلا داع لأخبر أمي ولا داع للحديث عن ذلك أمام جليلة..
كنت
اختلس الزيارات، زرتها مرة أو مرتين أو عدة مرات لا أذكر، حتي بدأت أمي تشك في
خروجي المتكرر وعودتي مكفهرة الوجه دامعة العين، وأخبرها حينها أنه لاشئ علي
الإطلاق..
أذكر
آخر زيارة لي لبيتها، كانت أختي الصغري بصحبتي، أخبرتها أنني سأذهب لجليلة وعليها
أن تكتم سري، وأعلمتها بتدهور حال صحتها وأخبرتها أن المرض قد بدل ملامحها، لم تعد
البيضاء طويلة القامة، حميراء الخدود، أخبرتها عن هزالها وسقوط شعرها واصفرار
بشرتها واحتراق جلدها، وأعدت علي مسامعها أنها يجب أن تتظاهر أنه لاشئ تغير علي
الإطلاق، فلتستعير مواهبها التمثيلية كلها لتشعرها أنها مازالت جليلة البهية حلوة
الطلة جميلة القسمات..
كنت
أرتدي قطعة من الحلي أهدتها لي عمتي لما اعتمرت، كان طوق حول الرسغ أزرق زاهي
الألوان، أعجبها، أعطيته لها عن طيب خاطر، كان عندي شعور قوي أنها آخر مرة سأراها
فيها، وتحول ظني إلي يقين لما أخذتني أختها الكبري في المطبخ وأخبرتني أن آلالام
المرض بدأت تنخر في جسدها، الألم يأكل قطعة قطعة منها، ولا يسكن الألم إلا المواد
المخدرة عالية التركيز.. بكينا معا، أنا وأختها... كل ما قلته كان "فليكن ما
بقي من أيامها هو أسعدها"، فأماءت برأسها في موافقة وأخبرتني أنهم أعدوا لها تأشيرة
العمرة، قالت لي أن أمنيتها أن تذهب إلي هناك وتطلب الشفاء...
فخرجت
إليها من المطبخ، استكملت حديثي معها ودعوت لها كثيرا بعد أن حمدت الله بكل
المحاميد وأثنيت عليه بكل ورد أحفظه، ودعوت ودعوت حتي تساقط الدمع دون قصد، بالغت
في إظهار البهجة واصطناع الفرحة ولكن دموعي خوانة، تفضحني عند الألم الذي لا أجيد
كتمانه..
لما
دعوت لها، أخبرتني هي عن عمرتها المنتظرة فرفعت حاجبي في دهشة وفرحة وكأنني اسمع
الخبر لأول مرة، أنا اعلم أنها تنتظر لتخبرني هي ولا أريد أن افسد فرحتها، ثم حدثتني
عن حلم عجيب، قالت لي أنها حلمت أنها تتوضأ، ثم سقطت منها الدلاية الذهب من
سلسلتها الذهبية والتي كنت أهديتها لها لما تعافت وخرجت من المشفي أول مرة،
أخبرتني أن السلسلة سقطت منها وأنها فقدت الدلاية في حلمها واستيقظت من منامها وهي
فزعة.. لم يلاق حلمها خيرا في وقع نفسي، ولكني تظاهرت باللامبالاة، وقلت لها ربما
كان شرا وابتعد...
وسافرت
حبيبتي للعمرة، ثم أصيبت بالعمي وقيل لي أنها دعت الله إن لم يكتب لها الله الشفاء
أن تموت حيث اعتمرت وأن تدفن هناك في مدافن البقيع..وقالوا أنها توفيت إكلينيكيا
لثلاثة أيام ثم توفاها الله كما تمنت ودفنت في مدافن البقيع..
من
يحسنون إلينا ويرحلون عنا يرتكبون أبشع جرم في حقنا كبشر، مثاليتهم تفضح العوالم
الكئيبة وتقتل الزيف الذي نراه ونتعايش معه لنحيا من بعدهم، برحيلهم يقتلون جزء من
حيواتنا، ولا تعدو الحياة بعدهم أبدا كما كانت، يتركوننا نلهث وراء ذكراهم ونشقي
لرؤياهم حتي لو طيف في حلم، والأدهي من ذلك أنهم برحيلهم يتركون في قلوبنا نبتة
الخوف من الفراق، تنمو كلما فارقنا أحدهم، تنموالنبتة وكلما ازدهرت أدركنا ثمن الفراق!

Comments