شاشات
التلفزة كالضيف في بيوتنا، ولم تعد كالضيف الذي يأتي بين حين وآخر، بل كالضيف
الثقيل الذي لا
يغادر أبدا، زد علي ذلك أنه ضيف مسيطر مستبد ومُعدِ.
فلو
فرضنا أن ضيفك عنيف، يميل للأكشن والإثارة، تلقائيا ستجد نفسك مشدودا قلقا تتلاهث
أنفاسك وراء الأحداث، وإن كان ضيفك يميل للمرح سيعم بيتك البهجة، وإن كان ضيفك يحب
السياسة فستسري في بيتك شحنة غير مسبوقة من الجدل وموجة عاتية من خلاف الرأي...
لذا
أنا حريصة أن يبقي ضيفي هادئا في بيتي، يذكرني بالخير ويسد مغاليق الشر، فكان
قراري أن امنع المسلسلات التلفزيونية منذ زمن طويل، ربما يزيد عن العشرة أعوام...
منذ
شهور شعرت برغبة في التجديد، ومع انتشار مقاطع الفيديوهات علي السوشيال ميديا أو
الوسائط الإعلامية مثل فيسبوك وواتساب، وجدت رغبة قوية أن أتابع بعض المسلسلات،
فسألت والدتي عن ماهية المسلسلات التي يمكن أن أشاهدها مع أطفالي دون الخوف من لفظ
نابي أو إيحاء جنسي والذي بات أمرا بالغ الصعوبة هذه الأيام، للأسف المسلسلات
جميعها لا تخل من الخمور والمجون ومشاهد العري والإثارة والمخدرات ومعاكسة الفتيات
وكأن هذا هو العادي، وكأن العادي في بيتك -كشخص عادي- أن تستيقظ من نومك لتتفقد
البار في ركن الصالة وكأس النبيذ اللازم حتي تشعر أنك علي راحتك حتي قبل أن تغسل
وجهك...كل الشباب في المسلسلات وبمختلف الأعمار يتعاطون المخدرات كما كنا نحن-
كمراهقين- نتعاطي العلك ونتجرع المياه
الغازية!
معظم
المسلسلات- وإن لم تكن كلها- تتحدث عن
الإرهاب الذي يحدث أو الإرهاب الذي سيحدث أو الإرهاب الذي سيمنعون حدوثه..
وعرضت
كل هذا علي والدتي وشاركتها مخاوفي، فاقترحت مسلسلا اجتماعيا لنجم محبوب، فطلبت
إليها أن تخبرني القصة مسبقا حتي أستطيع أن أتابع المسلسل حتي وإن فاتتني بعض
الحلقات مع تأكيدي وإلحاحي أن يكون مسلسلا هادفا ليس به ألفاظ خارجة وليس به عنف
ولا إرهاب ولا أحداث تثير القلق والرعب بداخلي فلدي ما يكفي من القلق ولا أبحث عن
قلق آخر..
وأكدت
لي أن المسلسل يخلو من كل هذا، وقصت لي الحكاية، عائلة عريقة ميسورة الحال ولديهم
طفل أوحد، خطف في المول التجاري وبِيع لعصابة لسرقة الأعضاء!
وكان
هذا يكفي !
فقلت
لأبحث بنفسي عن مسلسلي المفضل، فوجدت مسلسلا آخر، ومن تعليقات الناس بدي لي مسلسل
خفيف وأقرب إلي المطلوب، البطل يتخبط ليجد عمل ثم يسافر لشرم الشيخ حيث السياحة
والمال الوفير، ثم يعمل لدي أحد رجال الأعمال والذي بدوره يعينه كحارس خاص لما وجد
منه الإخلاص والبذل، وكل هذا مألوف في إطار كوميدي خفيف الظل، مشكلتي هنا هي فيلا
أو بيت رجل الأعمال..
ماهذا
البذخ، أبيتا هذا أم مطار؟؟؟؟
وما
هذا الأثاث؟ هل هناك بيوت بهذه الفخامة حقا في مصر البلد الفقير الذي في طريقه
للتعافي؟
ومن أولئك
الممثلات؟ ظهرن فجأة دون سابق إنذار أو موهبة! واللاتي لم يفلحن في تغطية تجاعيدهن
بأكسسوراتهن باهظة الأثمان وملابسهن المتكلفة...حقا تذهبين للنادي بكل هذه الزينة؟
حقا
تضعين كل هذا القدر من الإكسسورات وأنت ذاهبة للعمل؟ خبرينا بالله عليك متي
تستيقظين من نومك لتجدي الوقت الكاف لكل هذا التبرج؟
حقا
هذه طريقتك في الحديث مع الأخريات؟ تفتحين عينيك عن آخرهما وكأن حريقا أو شعاعا
سيخرج منهما ليخترق الأخريات؟ حقا تتحدثين وأنت تتمايلين وتتغنجين هكذا مع الغادي
والرائح؟
أوليست
المسلسلات تعكس واقعا أو تناقش قضية؟
نعم لا
بأس من القليل من الحبكة الدرامية والكثير من الأحداث وبعض الأكسسوارات؟، ثم من
أين لهم بكل هذه الطاقة لجلب النكد والكدر والبكاء!، ما كل هذه الكمية من المسلسلات
التي تستعرض في أحداثها الزوجات اللاتي يقتلن أزواجهن والأزواج الخائنين!
انتبهوا،
هذا مُعدِ! وكأننا فتحتا أبواب بيوتنا عن مصراعيها لهؤلاء!
ما
نراه علي الشاشات هو عين الابتذال!
حتي
المسلسلات الكوميدية الساخرة الضاحكة، تفتقد المضمون وليس بها فكرة، هراء مبني علي
قدرة الممثل علي صنع الإيفيه اللحظي وممارسة " القلش" بإتقان.
مسلسلات
كاملة من أكثر من ثلاثين حلقة علي هذا المنوال، والأدهي من ذلك، نفس الوجوه في كل
المسلسلات، يبدو أن الشركة المنتجة استأجرت واحتكرت مجموعة معينة من الفنانين
بعقود ولمدد معينة وعليهم إنهاء المدة بأكبر قدر من المسلسلات، والفنان يختار شلته
وأصدقائه وربما عائلته ليمثلوا المسلسل..مسلسلهم العائلي!
وتُفرض
علينا نفس الوجوه ونفس الأفكار ونفس الُكتاب والممثلون والمخرج والمنتج، في رتم
رتيب لا ينتهي إلا بإفلاس شركة الإنتاج..
لكن
الممثل لا ينتهي، يستمر، وينتشر ويتكاثر ويمثل نفس الأدوار طالما " اللي تكسب
به ..العب به".
ناهيك
عن ظاهرة الصداقة بين الشباب والفتيات..منذ متي الفتيات صديقات للفتيان؟ منذ متي
تتحدث الفتاة دون حياء ولا خوف عن أسرارها وحياتها ومشاكلها مع شاب غريب باسم
الصداقة لسنين وسنين، ثم ياللهول اكتشفت فجأة أنه حب!
هل هذا
اقتداءا بسنة الغرب والاعتراف بصداقة الشباب والفتيات؟، حسنا الغرب منهم أيضا
المتحفظون الذي يرفضون هذا، حتي الحكومة الأمريكية الجديدة أصدرت قوانين جديدة
لمنع الدعم الحكومي لوسائل منع الحمل والإجهاض، وبالتالي ستضطر الفتاة إن كان لها
علاقة نتج عنها الحمل أن تُسقط الطفل أو تمنع الحمل من مالها الخاص والذي لن يتأتي
لها إلا لو كانت تعمل وبالطبع لن يتوفر لها المال اللازم لذلك فستنتهي عن ذلك لو
كانت تفعله عنوة. مع العلم أن هذا مع الأسر المنفتحة المتحررة، لكن الوضع ليس كذلك
مع الأسر المتدينة والأسر المحافظة والتي تشرك فتياتهن في أنشطة توعوية أو أنشطة
رياضية تابعة للمدرسة أو الكنيسة مع التأكيد علي توضيح ضرر العلاقات من هذا النوع
علي الفتيات بالتشديد علي العواقب وتسليط الضوء عليها، إذن الغرب أنفسهم لا يشجعون
فتياتهم علي هذا الإنحلال باسم الصداقة أو أي شئ، فمن أين يأتون بتلك الأفكار
ويفرضوها علينا في بيوتنا وعلي شاشاتنا!
وحتي
البرامج، احتكرها الممثلون، البرامج للممثلين ويقدمها الممثلون ويستضيفون بها
الممثلين أيضا!، وبربكم ما الإنجاز الخارق الذي يقدمه هؤلاء من أجل كل هذا الضوء
عليهم...أين برامج "جولة الكاميرا"، "غرائب وطرائف"،
"عالم البحار" ، " العلم والإيمان"...
أصبحنا
جيل كامل يفتقر للضحكات الراقية علي وتيرة" اسماعيل يس في مستشفي
المجانين" و نفتقد "سك علي بناتك" ولا مجال ل "يوميات
ونيس" أو "هند والدكتور نعمان"..
إن لم
نرتق ونبحث عما يليق ويستحق المشاهدة ونرفض تلك البذاءة والوقاحة التي تعرض علينا،
فلننتظر
طوفانا من أجيال جديدة من عديمي الخلق فاقدي الهوية!

Comments