منذ حديث عهدي بالقراءة والمطالعة، كنت من عشاق مجلة الكواكب. كنت أطالع نوادر الفنانين وأداوم علي قراءة بريد القراء. الناس في أصدق حالاتهم بين كلماتهم. حين يكتب أحدهم عن تجربته دون إعلان هويته ويسأل النصيحة، فهو يقدم لك خالص تجربته علي طبق من ذهب، وحين تقرأ الردود، تتعلم من تجارب الناس ما كان يجب عليك أن تفعله دون الوقوع في فداحة أخطاء الآخرين. لما نتعلم عن تجارب الآخرين الصادقة، نختصر علي أنفسنا مرارات الفشل ونكتسب رقة القلب فنتعلم التعاطف مع آلالام الناس وعثراتهم، ولين القلب من أبرك النعم التي يمكن أن ينعم الله بها علي المرء منا، رقة القلب تزيح سوء النفس وتزج بالمرء في رحاب الله فينأئ بنفسه عن مزاحمة الخلق في شرورهم و تجعله يسعي دوما أن يرقي بنفسه عن آثامه.
في ذات مرة قرأت مقالا عن موقف حدث مع كوكب الشرق أم كلثوم. روي الكاتب أنها في ذات مرة غنت في حفل، وكان حفلا رائعا أطربت مسامع الجميع بأجمل الألحان، ولكن غالبا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي أثناء الحفل، تلفظ أحد المعجبين بلفظ نابي وألقي بوابل من عبارات الحب والهيام بشكل غير لائق علي مرأي ومسمع من الجميع، كان موقف غير متوقع، وكان للسيدة ام كلثوم حق الاختيار بين ردود فعل عديدة، إما أن تبتسم في خجل، أو أن تتجاهل ما قال ذاك اللئيموتستمر بالغناء، أو إما أن تردعه حتي لا يتجرأ أحدهم علي تكرار الموقف. واختارت سيدة الغناء العربي الاختيار الثاني، فتوقفت عن الغناء لبرهة وقالت وهي توجه عباراتها إليه : " تصدق بالله يا حضرت؟ حضرتك شنبك متربي أحسن منك!"
وهنا تقوقع الرجل مكانه وشعر بمدي دناءة فعله ووقاحته، ولم نسمع بعدها عن تكرار تلك الواقعة.
الكثير منا في تعامله مع الوقحين يختلط عليه أمره، فيخلط ما بين الطيبة وقلة الحيلة، والكثير منا يخلط بين الحزم والافتراء. سبحان الله حتي الوقحين أنفسهم، يفتقرون إلي التمييز أيضا. دعني أخبرك من خلال الموقف السابق أن هناك فرق شاسع. الطيبة أن تكون في موقف قوة أو قدرة وتختار المغفرة والمسامحة بعد أن يعلم الطرف المخطئ قدر خطئه. أما قلة الحيلة فهي التغافل عن الإساءة لضعف موقفك تجاه المخطئ أو الخوف من ردة فعله.
اما القوة والحزم، فهي القدرة علي استرداد الحق وردع المخطئ رغم عدم تساوي القوة، تختار ردع المخطئ حتي وإن ارتعدت أطرافك من فرط خوفك، بينما الافتراء أن تختار استعراض القوة علي من لا حول له ولا قوة لمجرد أنه لا يقو علي مواجهتك.. لا يستويان!
العجيب فينا نحن البشر أننا كثيرا ما نخلط المفاهيم ونستدعي البطولة وقتما استوجبت المسامحة، ونستدعي التسامح وقتما وجب الحسم.
أحيانا، لابد أن يري الشرار لك مخلباً ليتوقفوا...ولا عيب في ذلك، وكلما نسيت هذه الحقيقة أتذكر تلك الحادثة حدثت معي منذ سنين..
منذ سنوات حينما تلقي زوجي عقدا للعمل بالخارج، وصرت شهورا وشهورا بين المحاكم ومكاتب التوثيق سعيا علي أوراق الاستقدام، ومن فرط التعب قررت الاسترخاء ليوم واحد كان شديد الحرارة قبل معاودة استكمال رحلة استخراج أوراق السفر.
ويشاء القدر أن يحدث حريق هائل حيثما كنت أذهب بشكل يومي لاستخراج أوراقي. حمدت الله علي سلامتي و أني لم أذهب يومها، ولما ذهبت اليوم الذي يليه حيث تقبع مكاتب التوثيق، أخبروني أن حصيلة شقائي شهورا من السعي لاستخراج الأوراق المطلوبة لم تعد صالحة لأنهم باختصار غيروا القوانين وعلي أن أعيد تقديم الأوراق وأعيد الخطوات من جديد!
لم أتمالك نفسي من فرط الغضب والقهر والبكاء، وصرت أصيح كالأسد الجريح :" لن أخرج من هذا المكتب قبل أن استخرج أوراقي، كلها...الآن. لقد حجزت التذكرة ورتبت أموري أني سأسافر خلال أيام.. لن يمكنكم تعطيلي. لن توقفوني. سأسافر لزوجي خلال أيام. وأنت يا هذا ، سوف تمضي أوراقي الآااااااان. ليست مشكلتي أنهم غيروا قوانينهم، وليست مشكلتي أنهم قرروا أن قوانيهم لم تعد تعطل مصالح الناس بما يكفي، فابتكروا طرقا جديدة لعرقلة مصالح الناس... ستمضون أوراقييييييي...الآاااااااااان... الآااااااااااان". وأخذت اضرب بكلتا يدي علي المكتب في هيستريا أقرب للجنون.
لم أصدق ما فعلت ولم أدر بما فعلت إلا عندما لاحظت وجوه الموظفين السانحة المتأملة أمامي بين إشفاق وخجل من كتمان الضحك.
شعرت بنفسي كغوريلا جامحة قررت أن هذا العالم ظالم بما يكفي ليمنعها أن تحيا فيه بسلام ودون ضجيج، فقررت أن تزأر في غضب أتظنون أنني كائن ضعيف تهاون في حقه ليترك لكم الحبل علي الغارب؟""
سبحان الله، مرت دقائق واستهدوني وذهب أحدهم وعاد بأوراقي كاملة ممضية وتركني أرحل في هدوء منهم وعدم تصديق مني.
ويبقي السؤال، لم علينا أن نطلق غوريلاتنا علي الظلمة حتي يتوقفون عن ظلمهم؟ لم علينا أن نخرج الغوريلات بدواخلنا حتي يتوقف اللئام؟
لِم لَم يتركوا الغوريلا نائمة؟
اتركوا الغوريلا في حالها يرحمكم الله!
Comments