أعتقد أن الكثيرين منا لديه مشكلة ما في أنسنة الآخرين أو ما يطلق
عليه بالإنجليزية
Humanizing others
بمعني آخر أننا نصنع من اختلاف الآخرين عنا أو من مشاعرنا السلبية
تجاههم حاجبا يمنعنا من رؤية الجانب الإنساني فيهم. لا نستطيع أن نألفهم أو نلتمس
العذر لهم طالما ليسوا مثلنا أو علي الأقل إن كنا لا نحبهم.
ذات مرة كنت بالمتجر ابتاع بعض المشتريات، وجدتها بدت من ملامحها
المألوفة وحجابها ذو الألوان الزاهية أنها من أصل عربي، كانت بصحبة طفليها..
اقتربت منها سيدة بيضاء أمريكية بدينة ومعها طفلها، فلما اقتربت عربة مشترياتهم من
عربة مشترياتهم همَ طفل السيدة ذات الحجاب بدفع عربة مشتريات السيدة الأمريكية بقوة
وإندفاع، ودون قصد منه ولسوء الحظ ارتطمت العربة بجسد صغيرها.. فأسرعت السيدة
البدينة كالنمرة البلقاء أو أسد يستعد لنهش فريسته، وانتفخت أوداجها وسارعت إلي
الطفل بسرعة البرق لتوبخه...
انفلتت السيدة العربية من بين طفليها لتتفقد حال الطفل الساقط علي
الأرض، ويالها من لحظة، هذه ذهبت لتهدئ من روع طفل وتلك ذهبت لتثير ذعر طفل.
وعلي صوتها وهي توبخ الطفل علي ما فعل، فأسرعت إليها الأم وبأدب جم
اعتذرت منها وكررت الإعتذار، لكن دون جدوي.
فاقتربت منها السيدة ذات الحجاب أكثر وهمست في هدوء:" أنا آسفة
جدا، ابني طفل توحدي، هو بالتأكيد لم يقصد إيذاء صغيرك، هو فقط لا يعي عقبات ما
فعل، اقبلي عذري و.."
فقاطعتها الأخري وقالت:" وهل أتيتم لبلادنا لنتحمل أعباءكم،
فلتعودوا من حيث أتيتم!".
أخرستها، وما كان من السيدة ذات الحجاب إلا أن تركت عربة مشترواتها
وأمسكت يدي طفليها وانطلقت خارج المتجر.
برأيي هذا تعريف ثلاثي الأبعاد لكلمة القهر والحسرة.. حين يلفظك
الناس، حين تري نفسك وحيدا كسيرا بينهم لمجرد أنك لست منهم، أو ربما لأنهم لا
يعرفونك مثلا أو لا يحبون من هم علي شاكلتك ربما..
والأكثر من ذلك أن يستمروا علي نبذهم لشخصك حتي بعد أن عريت أمام
أعينهم جراحك، وذكرت أمامهم ما يصعب علي نفسك تقبله...أين الرحمة؟
لم لا نألف الآخرين ونتعاطف معهم حتي وإن لم نحبهم؟ لم نقيض من أنفسنا
قضاة نحكم علي الناس ونلقي علي مسامعهم السباب لمجرد أننا كرهنا منهم شئ؟ لم لا
نري أعذارهم قبل قبحهم...مزاياهم قبل عيوبهم...قلوبهم قبل هيئاتهم؟
ما هالني أكثر هو ما رأيته عندما خرجت إلي سيارتي خارج المتجر، وجدتها
خارج سيارتها تبكي بعيدا عن أعين أطفالها..انفطر قلبي لأجلها..وينفطر قلبي لكل
أسرة لديها طفل يعاني من أي اضطراب سلوكي أو عصبي أو حتي عقلي.
هذا المشهد متكرر بشكل يومي مثل نشرة الأخبار اليومية، وحدث أمام
ناظري موقف مشابه في أحد مراكز الرعاية الطبية، كنت أنتظر دوري وعيادتي بجوار
عيادة التخاطب وتعديل السلوك وأمامي جلست أم لطفل يعاني من تشتت الانتباه وفرط
الحركة، بات يحوم حول الأم في نشاط زائد، لم يجلس لدقيقة ولم يكف عن الكلام طيلة
نصف الساعة، حتي كال لها أحدهم السباب ونعتها بالمهملة التي فشلت في السيطرة علي
الصغير، وبكت الأم من فرط الضغط وقالت:" وأنا اعمله إيه يعني، ربنا خلقه
كده.." فقام إليها الرجل واعتذر منها بعدما وبخه الناس وذكروه أنه بمشفي وليس
منتجعا صحيا يتطلب الهدوء.
أسر الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة من أشد الأسر حاجة إلي الدعم
والإدراج في المجتمع... في النهاية هم أطفال لا ذنب لهم فيم ابتلاهم الله به،
وكذلك أسرهم لا قبل لهم بكل ذاك القدر من النفور والضغط المجتمعي.
القليل جدا من العلماء والأئمة يسلطون الضوء علي هذه القضية وكأن
هؤلاء الأطفال وأسرهم ليسوا جزءا محسوبا من المجتمع!
نحن أنفسنا بحاجة للتوعية ..بحاجة للعلم والإدراك عن أصحاب هذه
الحالات وكيفية التعامل معهم دون جرح مشاعرهم وقذفهم بوابل من الإتهامات، والتي في
الأغلب تلقي علي عاتق الأم..هذه جيناتها، هذا إهمالها، هي من تترك أطفالها
للتلفاز، هي تحتاج أن تنتبه أكثر لأطفالها، هي فاشلة في السيطرة علي نوبات غضب
الطفل، هي لا تعلم كيف تربي وليدها، كان ينبغي عليها الإهتمام بتغذية جنينها أثناء حملها تفاديا لذلك، كل هذا وننسي "
ماذا لو كان هذا قَدَرُها!"
لن تجدي نصائحنا مع القدر بالمناسبة..يكفي الكلمة الطيبة
ولن يجدي النقد اللاذع مع البلاء..فليقل خيرا أو ليصمت
ولن يفلح العزل والنبذ..الذئب يقترب من الشاه القاصية
وإن كرهنا أحدهم ولن نستطيع نفعه، فلا يجوز أن نضره!
فلنكف أنفسنا عن أذي الناس، ولنغض الطرف عن زلاتهم...ولنتذكر قول الله
تعالي : لست عليهم بمصيطر".. تعلموا الإحسان وأكثروا من التغاضي واسمحوا
لقلوبكم بالقبول والتعاطف حتي مع أعدائكم، تسموا أخلاقكم!

Comments