أنا وأولجا
مدونتي بجريدة عربي بوست
كنت في طريقي لعيادة طبيب الأسنان، أخاف القيادة للمسافات البعيدة فاخترت حافلة النقل العام لتقلني لمكان العيادة. شبكة المواصلات في الولاية التي أسكن بها سيئة، رغم أن الحافلة لها ميعاد ثابت، لكن تأتي كل خمس وأربعين دقيقة وليست متوفرة طوال ساعات اليوم، فقد ينتهي عملها في الرابعة عصرا ، لذا فالشبكة غير صالحة للطوارئ وغير صالحة كوسيلة مواصلات تعتمد عليها بالكلية ولا يمكنك الاعتماد عليها إن كنت علي عجل. فلنقل أنك تحتاج علي الأقل أربع ساعات في الحافلة حتي تستطيع أن تصل لمكان يمكنك الوصول إليه في أقل من ٤٥ دقيقة بسيارتك...وأعددت نفسي علي هذا.
كنت في طريقي حتي المحطة، أنهكني التعب والألم والصيام، لم تهون أمطار مدينة سياتل وصقيعها اللامتناهي من إنهاك ساعات الصيام الثمانية عشر، شعرت بنصف إغماءة وكأن روحي ستسحب من عنقي، همست لنفسي بشئ من القنوط ياربي، هذا كثير..لم أعد أحتمل كل هذا، للمرة الثانية نفس الضرس و قد عطب العصب، وكان الضرس الثالث الذي يفسد عصبه في أقل من شهرين..أعلم أنك لا تكلف نفسا إلا وسعها ولكن ما يحدث فوق احتمالي...دائما أردد أن الله لا يبتلي المرء إلا بقدر ما يطيق، ولكن هذا فوق طاقتي..يارب أين خفي لطفك؟
ولم تمر دقائق، حتي وجدت من يستوقفني بسيارته، إمرأة أربعينية تدعي أولجا، مسيحية من رومانيا، نادتني وقالت: يمكنك الركوب معي، أين ترغبين الذهاب؟ بدي وجهها مألوفا فرددت دون تفكير: سأذهب إلي المحطة. ثم لدغني الحياء فتراجعت قائلة: لا عليك أنا اعتدت الطريق، لا عليك سأذهب وحدي...شكرا لك!
فقالت دون تردد: أنا جارتك، أولادي مع أولادك بنفس المدرسة، تعال اركبي.
ركبت معها، كانت في غاية اللطف والإحترام، و أخبرتني أنها معجبة بتمسكي بحجابي و عقيدتي، قالت لي وكأنه أمر جلل: أنت أفضل مني، ترتدين الحجاب وتتمسكين بمظاهر عقيدتك، أنا لم أستطع أن أفعل ذلك. فنظرت إليها باستفهام وسألتها: وما دينك؟
قالت : أنا مسيحية من طائفة البنتاكوستال...في عقيدتي يجب علي المرأة ارتداء الحجاب وإن لم ترتديه تحلق شعر رأسها، لم أستطع ارتداء الحجاب فشذبت شعر رأسي مثل الرجال.
فسألتها: أنا سمعت عن طائفة الأميش أيضا يرتدون الحجاب ولا يركبون المواصلات ولكن لم أعرف أبدا عن عقيدتك من قبل، هذا مذهل!، ياتري هل لدينا أشياء مشتركة بين العقيدتين؟
فقالت: النساء لدينا لا يرتدين الحلي ولا الزينة؟
فسألتها: ولا للتبعل للزوج؟
فقالت: ولا حتي للزوج.
فاستطردت: ولدينا نبي مثلكم، نذهب إليه في الكنيسة.
فقلت: بالنسبة لعقيدتي، فقد ولي زمن الأنبياء والمعجزات، و نلجأ للشيوخ والعلماء في المساجد ودروس العلم ولكن لا نطلق عليهم لقب أنبياء.
فباغتتني بسؤال آخر: اسمحي لي ما الذي يجعلك متمسكة بهذا الدين؟
فقلت لها : وما الذي يجعلك متمسكة بدينك؟
فقالت: لأنه حق وصدق، رزقني الله بسبع من الأبناء، أنجبت أبنائي الستة دون مشاكل، ثم انتابتني نوبات القلق الدائم لما كنت حاملا في أصغر أبنائي، كنت أحلم كثيرا أني أنجب طفلا مشوها أو مريضا، فلما ذهبت للنبي في الكنيسة، قال لي: أنتي قلقي، وطفلك سيولد به مشكلة وسيشفي، وأنجبت صغيري وكان لديه التصاق بإحدي أصابعه، وبعدما استقرت صحته ووصل للرابعة من عمره أجرينا جراحة صغيرة بإصبعه وتماثل للشفاء.. أخي أيضا كان لديه ابنا مريضا ينزف دون سبب وكان يذهب به للكنيسة للتداوي حتي شفي دون علاج..
صمتت قليلا وقالت لي ما جعلني أصمت مشدوهة: قالت لي، إن الله يختبرنا ويبتلينا بقدر ما نطيق، ويبتلي ويلطف.
أخرستني كلماتها لثوان، هذا بالضبط ما كنت أردده، وهذا بالضبط ما كنت أشكك به!
فسألتني: وأنت؟ ما الذي يبقيك علي دينك؟ الأمر يزداد صعوبة مع طوال ساعات الصيام والحجاب والمحظورات الكثيرة بدينكم؟
فقلت: الإيمان بالله نور في قلب المؤمن، يهده به إلي الصواب، مادمتي تصلين ويسمع صلاتك فهو إيمان حقيقي، حتي وإن لم يشف ابنك أو لم يجاب دعائك، ستجدين سكينة في صدرك و عون لك علي دربك، ما يجعلني أتمسك بعقيدتي أنها بوصلتي، الحياة ليست عادلة في كثير من الأحيان وليست مبهجة في الكثير من الأحيان،ولكن أجد في إيماني راحة لنفسي الحيري، أجد سكينة وطمأنينة ضد كل خوف، أجد إجابة عن كل أسئلتي.. فكرة أني سألقي ربي حيث الراحة اللامنتهية بعد طول عناء تريحني، فكرة أن هناك شيئا فائق القدرة يستطيع أن يعيد الحقوق المسلوبة ويحقق العدل ويعاقب الظالم وينصف المظلوم ويحاسب من أسرف ويجازي من افتري ويكافئ من أحسن ويجزل العطاء لمن ارتقي، فكرة مريحة لعقلي وبدني، وستجدين نفس الشئ في كل العقائد حتي اللادينيين وحتي الذين لا يعتقدون في الدين أصلا ستجدين لديهم أفكار مشابهة.
سألتني: كيف؟
فقلت: اللادينيون وهم من يعتقدون في الله ولا يعتقدون في الكتب السماوية يمارسون تمارين اليوجا و التأمل والتي في كنهها هي صلاتنا بعينها، وحتي التأمل الذي يمارسه البوذيون يشبه تكنيك الصلاة، جمل معينة ترددينها بصدق خالص حتي تستشعري أنها تسري بجسدك فتصفو روحك هو بالضبط مفهوم الخشوع في الصلاة، كلها أفكار تصب في بوتقة واحدة، بوتقة أن ثمة هناك شئ ما أكبر منك يمتلك روحك وصلتك به مفتاح راحة نفسك.
فسألت: وماذا عن الذين لا يؤمنون بفكرة الرب أصلا؟
قلت: ليس هناك من أحد لا يعبد شئ..ستجدينه يعبد أهواؤه أو يعبد علمه، فمن يعبد هواه سيفعل أي شئ وكل شئ ولن يصل لشئ، ومن يعبد علمه سيجد أن الصلة بالله لا تعارض العلم و التعلم وليست ضده، فعلي سبيل المثال لو كنت شخص تعاني من نوبات القلق والوسوسة ستجدين أن العلم يخبرك أن ترددي أغنية محببة أو موسيقي هادئة ولا تنسي النفس العميق بينما في الدين فلديك الكتاب المقدس ترددين منه وتسمعين من آياته وترتلينه في صلواتك حتي تسكن نفسك، هي نفس الفكرة ولكن الدين والصلة بالله تعطي قيمة وأسباب للأفعال وتشعرنا بالإستحسان لأننا نؤمن بالبعث وبالحياة الآخرة.
فقالت لم تجبي علي سؤالي: لم عقيدتك بالذات؟
فقلت: ولدت عليها ولماختبرتها هدت ضالتي وبددت حيرتي. أجد فيها جوابا، ولا أجدها تناقض بعضها.. عقيدة تدعوك للتفكر والتدبر وإفشاء المحبة وتقبل الآخر والإحسان والرحمة والرضا والتواضع والسماحة. عقيدة أثق بها، الأديان جميعها حقا تدعو لكل طيب وما تبتدعه الملل من إقصاء وكره من صنيع البشر ليكافئوا أهوائهم، إن الله لا يرضي أن يلقي الأمم متنازعة وامتحننا بالإختلاف ليري كيف نطيق..ثم ابتسمت وأنا أردد الدرس الذي بعثه الله كرسالة صريحة حتي لا أنسي، "وحقا كما قلت...إن الله لا يبتيلينا إلا بقدر ما نطيق، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..صدقت!"
كنا قد وصلنا للمحطة وانتهي اللقاء وأدركت مجددا أن الله لا يترك حائرا ولا يبتلينا إلا بقدر ما نحتمل وهو أعلم.
نحن حكايا الله علي الأرض، يرسلنا الله لبعضنا لبعض كرسائل مطوية..فاعتبروا يا أولي الأبصار...
ملحوظة: القصة حقيقية وأستأذنت السيدة في نشر صورتها بالمدونة.
Shama_farag@outlook.comبريد المدونة
المدونة مفتوحة لكم ولآراءكم وتجاربكم ومقترحاتكم وأعمالكم الأدبية، راسلونا علي بريد المدونة
قصص قصيرة أخري علي المدونة
من تأليفي وليست حقيقية صديقي الهسهس

Comments